“عبيدات الرما” كنز تراثي وجزء من هوية الشعب المغربي


 

 

 

خبر خريبكة : عبدالله الفادي

 

على مر العصور ظلت حضارات الأمم  تقاس بموروثها الثقافي، وفي مقدمة ذلك الفنون الشعبية، والمغرب كدولة عريقة ضاربة في جذور تاريخ البشرية، يملك رصيدا ثريا ومتنوعا من هذه الفنون، حسب المناطق والجهات واللغات واللهجات والعادات.

فبين الشمال حيت تبرز “الطقطوقة الجبيلة” وأقصى الجنوب موطن “رقصة الكدرة” و “الطرب الحساني” هناك عشرات الفنون الأخرى، كلها تملك قيمة ثقافية رفيعة، ككنوز ضل المغاربة يتوارثونها ويحرصون على بقائها وصيانتها بصفتها جزءا من عاداتهم وتقاليدهم بل وهويتهم الإنسانية والوطنية، و المغرب هو البلد الوحيد الذي يملك كل هذا التنوع من الفنون الشعبية بسبب الحضارات التي تعاقبت عليه وتعدد ساكنته بين الأصلية والمهاجرة من المشرق والشمال ومن جنوب صحراء إفريقيا، زيادة على تعدد الديانات في بلد ضل عبر العصور نموذجا للتعايش والتسامح وملتقى الحضارات، التي ساهمت فيها عدة أشياء أخرى من أهمها موقعه الجغرافي المنفتح على العمق الإفريقي وعلى البوابة المتوسطية والشرق الأوسط وأوروبا.

وسط كل هذا الرقي الثقافي، والتنوع الفسيفسائي الجميل، لفنون كان لها عبر التاريخ إلى جانب الفرجة والاحتفالية، أدوارا مؤثرة بشكل إيجابي في مختلف مناحي حياة المجتمع المغربي، يبرز فن “عبيدات الرما” الذي إذ كانت كل البحوث والدراسات سواء منها القديمة أو الحديثة، تختلف حول تاريخ ظهوره بين القرن الحادي عشر الميلادي، و القرن السادس عشر، فليس هناك اختلاف على أنه من أقدم وأعرق الأنواع الفنية التراثية المتجذرة في كيان الشعب المغربي، خرج من رحم المناطق الزراعية الخصبة، لورديغة والشاوية و تادلة والحوز، وكان له في البداية ارتباط وثيق  بالرماية والصيد والفروسية والحروب، من طرف المجموعات التي تؤديه والتي كانت في  الغالب تتكون من الخدم والعبيد، قبل يصبح فنا احتفاليا له تقاليد وأعراف وطقوس خاصة، يزاوج بين الغناء المستوحاة كلماته العامية من نبض المجتمع بكل تلويناته، والرقص الذي له قواعد مضبوطة لا يسمح بالخروج عنها، والتي تجسد في الغالب أدوار الفارس البطولية ونخوة الفرس، ومختلف مظاهر الحياة اليومية خاصة منها المرتبطة بحياة البدو، لا غنى عنه في كل المناسبات الاحتفالية سواء منها الخاصة التي كانت تحيها القبائل والعائلات، أو الرسمية التي تخلد للانتصارات  والمناسبات الوطنية، ومع توالي الزمن انتشر عبر كل المناطق، وأصبحت فرقه التي تتكون فقط من الرجال بلباسهم التقليدي المغربي الأصيل ، لها مكانة مميزة، بل تلعب عدة أدوار أخرى إلى جانب الفرجة، لها علاقة بالجانب الروحي، وكذلك الفصل في النزاعات بين الأفراد والجماعات، وغيرها من الأشياء التي منها من تختزلها الذاكرة الشعبية ومختلف المؤلفات المتخصصة في المجال، أو التي مازالت مظاهرها إلى اليوم سائدة.

وفي الوقت الذي نجد فيه العديد من انواع الفنون الشعبية المغربية، دخلت دائرة النسيان أو فقدت خاصيتها لمجموعة من العوامل والأسباب، في مقدمتها تغير طبيعة العيش في عدة مناطق خاصة منها القروية التي أصبحت تسير نحو حياة التمدن ومعه التفريط في طبائع وعادات شملت حتى هذه الفنون، زيادة على انسياق الأجيال الجديدة وراء الغزو الثقافي الغربي الذي فرضته العولمة، و الوضعية الاجتماعية والاقتصادية الهشة التي يعيشها الفنانون المنتسبون لهذه الفنون ودفعتهم إلى الابتعاد ، نجح فن عبيدات الرما، في الخروج من دوامة المقاوم من أجل الاستمرارية، و فرض حضوره كواحد من أبرز الأنواع الفولكلورية، التي أصحبت تتمتع بوزن رفيع بلغت شهرته العالمية، وسط تنافس فني وطني ودولي، ويبقى الفضل الكبير في ذلك للمهرجان الوطني لعبيدات الرما، الذي تحتضنه مدينة خريبكة سنويا منذ 19 سنة خلت، وتحول إلى محطة أساسية داخل خريطة المهرجانات التراثية، التي تنظمها وزارة الثقافة، بشراكة مع عمالة الإقليم والمجالس المنتخبة ومجموعة المكتب الشريف للفوسفاط، تنفيذا للتوجيهات الملكية السامية التي تلح على ضرورة تثمين تراثنا المادي واللامادي باعتباره رأسمالا رمزيا ومدخلا أساسيا لتعزيز هويتنا الحضارية، خاصة وأن جلالته ووعيا منه بدور هذا الفن شمله وكل المنتسبين اليه بعطفه من خلال رعايته السامية لهذا المهرجان الذي بلغ دورته 19 التي اطلقت بفكر جديد يتطلع إلى آفاق أوسع…